العقار غير المحفظ في المغرب: إشكالات الواقع ورهانات الإصلاح
يُعتبر العقار في المغرب واحداً من أبرز المواضيع التي تثير نقاشاً واسعاً بين المواطنين والمهنيين والباحثين، نظراً للأهمية الكبيرة التي يكتسيها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية. فالعقار ليس مجرد أرض أو بناية، بل هو وعاء للاستثمار، ومصدر للرزق، وضمانة للمعيشة بالنسبة للملايين من الأسر المغربية، سواء في المدن أو في البوادي. غير أن واقع العقار في المغرب يطرح إشكالات عديدة، أهمها وجود نسبة كبيرة من العقارات غير المحفظة، أي تلك التي لا تتوفر على رسم عقاري رسمي بالمحافظة العقارية.منذ سنوات طويلة، ظل موضوع العقار غير المحفظ أحد أبرز التحديات التي تواجه المغرب، إذ ما زال يشكل نسبة مهمة من الوعاء العقاري الوطني. فبحسب تقارير رسمية صادرة عن الوكالة الوطنية للمحافظة العقارية والمسح العقاري والخرائطية، فإن حوالي ثلثي الأراضي في المغرب غير محفظة، مما يعني أن جزءاً كبيراً من الملكيات العقارية في البلاد غير مضمونة قانونياً، وتعتمد فقط على وثائق عرفية مثل عقود البيع أو الإراثة أو عقود الكراء الطويلة الأمد. هذه الوضعية خلقت إشكالات قانونية واقتصادية واجتماعية، وأثارت نقاشاً واسعاً حول مستقبل العقار غير المحفظ، والإجراءات التي ينبغي اتخاذها لمعالجة هذه الظاهرة.العقار غير المحفظ هو ببساطة كل ملك عقاري لا يتوفر على رسم عقاري صادر عن المحافظة العقارية. بمعنى أن الملكية لا تستند إلى وثيقة رسمية مسجلة، وإنما تعتمد على وثائق عرفية، قد تكون عقود بيع مصادق عليها في الجماعات المحلية أو شهادات عدلية أو حتى مجرد إشهادات عرفية بين الأطراف. هذه الوضعية تجعل العقار عرضة للنزاعات، إذ يمكن أن يدعي أكثر من طرف ملكيته، أو يظهر نزاع بين الورثة، أو يتم التلاعب بالعقود. وهذا ما يجعل المواطن البسيط في مواجهة صداع كبير حين يتعلق الأمر بأرض أو دار غير محفظة.الحكومة المغربية أعلنت في السنوات الأخيرة عن توجه استراتيجي واضح: القضاء التدريجي على العقار غير المحفظ، وذلك من خلال برنامج وطني واسع للتحفيظ العقاري الإجباري. وزير العدل المغربي أكد في أكثر من مناسبة، وخاصة خلال جلسات البرلمان، أن الدولة لا يمكنها أن تستمر في الاعتراف بالعقارات غير المحفظة، وأن الرهان هو أن يتم تحفيظ كل الملكيات حتى تكون مضمونة قانونياً وتحمي حقوق أصحابها. ويأتي هذا التوجه في إطار إصلاح شامل لمنظومة العقار في المغرب، يهدف إلى تعزيز الأمن العقاري، وتحفيز الاستثمار، وتقليص النزاعات المعروضة على المحاكم. لكن السؤال الجوهري الذي يطرحه المواطن البسيط هو: كيف يمكنه أن يحفظ عقاره في ظل تعقيدات المساطر وكثرة المصاريف؟ فالمغربي البسيط، سواء كان فلاحاً يملك قطعة أرض صغيرة في القرية، أو عاملاً اشترى منزلاً متواضعاً في الهامش الحضري، يجد نفسه أمام عراقيل إدارية ومالية. فالتحفيظ العقاري يتطلب جمع وثائق عديدة مثل أصل التملك، عقود البيع القديمة، شهادات الإراثة، بالإضافة إلى تكاليف المهندسين الطوبوغرافيين ورسوم المحافظة والضرائب. كل هذه المصاريف تجعل المواطن الصغير متردداً أو عاجزاً عن الدخول في المسطرة، مما يترك عقاره في وضعية "غير محفظة" لسنوات وربما لعقود.
ولكي نفهم أهمية التحفيظ العقاري، يكفي أن نعلم أن العقار المحفظ يتمتع بحماية قوية، بحيث لا يمكن الطعن في ملكيته بعد تسجيلها في الرسم العقاري، إلا في حالات نادرة جداً. بينما العقار غير المحفظ يبقى دائماً عرضة للنزاعات، ويُنظر إليه على أنه ملكية هشة وغير محمية. لذلك، فإن الاتجاه نحو تعميم التحفيظ العقاري يعتبر خطوة ضرورية لتأمين الحقوق العقارية للمواطنين، ولتعزيز ثقة المستثمرين، سواء كانوا أفراداً أو شركات.
واحدة من أبرز الإشكالات التي يعاني منها المواطن المغربي البسيط هي غياب الوضوح في العقود العرفية. فقد كان شائعاً في الماضي أن تتم عمليات البيع والشراء عبر عقود مصادق عليها في الجماعات المحلية، وهو ما يُعرف بالعقود العرفية. غير أن الدولة لم تعد تعترف بهذه العقود، واعتبرت أن أي عملية بيع أو شراء يجب أن تتم عبر مهنيين رسميين، وهم العدول أو الموثقون. هذا التحول القانوني هدفه حماية أطراف العقد من التلاعب وضمان قوة العقد أمام القضاء. لكن في المقابل، يطرح المواطن سؤالاً مشروعاً: هل بمقدور كل مواطن بسيط تحمل تكاليف الموثقين أو العدول؟
في هذا السياق، أصدر المغرب قوانين جديدة تحدد بدقة الجهات المخولة بكتابة العقود العقارية. فالمحامون الذين كانوا يمارسون هذه المهمة في إطار "العقد الثابت التاريخ" تم منعهم من تحرير عقود البيع أو الهبة أو غيرها من التصرفات العقارية. هذا القرار أثار نقاشاً واسعاً، حيث اعتبر البعض أنه خطوة إيجابية لتنظيم المهنة، بينما رأى آخرون أنه يزيد من صعوبة ولوج المواطن البسيط إلى العقود الرسمية بسبب الكلفة المرتفعة.
لكن إلى جانب هذه التحديات، يجب أن نذكر أن الدولة أطلقت منذ سنوات برنامج "التحفيظ الجماعي الإجباري" في مجموعة من المناطق، خاصة القروية. هذا البرنامج يقوم على أساس أن الدولة تبادر بنفسها إلى تحفيظ الأراضي الواقعة في مجال معين، وتتحمل جزءاً من التكاليف، مما يسهل على الفلاحين والمواطنين الصغار الحصول على رسم عقاري رسمي دون المرور بكل التعقيدات الفردية. غير أن هذا البرنامج لم يشمل بعد كل المناطق، وما زالت هناك مساحات واسعة من الأراضي غير المحفظة تنتظر دورها.
القضاء المغربي بدوره يعج بملفات النزاعات حول العقار غير المحفظ. فهناك آلاف القضايا سنوياً تتعلق بنزاعات بين الورثة، أو ادعاءات بالملكية، أو عقود بيع متعارضة. هذه النزاعات لا تكلف المواطن فقط ضياع الوقت والمال، بل تخلق أيضاً مشاكل اجتماعية عميقة بين العائلات والقبائل. ولهذا، فإن القضاء على العقار غير المحفظ يُنظر إليه أيضاً كخطوة لتقليص العبء على المحاكم وتخفيف النزاعات العقارية.
عند المقارنة مع دول أخرى، نجد أن المغرب ما زال متأخراً نسبياً في مجال تعميم التحفيظ العقاري. ففي دول مثل فرنسا أو إسبانيا، عملية تسجيل العقارات إلزامية ومبسطة، ولا يُعترف بأي ملكية إلا إذا كانت مسجلة رسمياً. هذا ما يجعل السوق العقارية هناك أكثر شفافية، ويقلل من فرص التلاعب أو النزاعات. أما في المغرب، فالمساطر البيروقراطية المعقدة تجعل المواطن يتردد في التحفيظ، مما يترك المجال مفتوحاً للفوضى.
من أجل تجاوز هذه الوضعية، يرى خبراء القانون والعقار أن الدولة مطالبة باتخاذ إجراءات جريئة، من بينها: تبسيط المساطر الإدارية، تخفيض الرسوم المتعلقة بالتحفيظ خاصة للفلاحين الصغار، توسيع نطاق التحفيظ الإجباري ليشمل كل المناطق تدريجياً، وتكثيف الحملات التوعوية للمواطنين بأهمية التحفيظ. فالكثير من المواطنين لا يدركون المخاطر المرتبطة بالعقار غير المحفظ إلا بعد فوات الأوان.
المواطن المغربي البسيط يجد نفسه في قلب هذه الإشكالية. فهو يرغب في حماية أرضه التي ورثها عن أجداده، أو منزله الذي بناه بعد سنوات من العمل والتضحيات، لكنه يواجه عراقيل مادية وإدارية تجعله يتردد أو يتأخر في القيام بالتحفيظ. ومن هنا، فإن أي إصلاح حقيقي لمنظومة العقار في المغرب لا بد أن يضع المواطن البسيط في صلب الاهتمام، ويعمل على تيسير الإجراءات له، لأنه هو الحلقة الأضعف في هذه السلسلة.
في النهاية، يمكن القول إن العقار غير المحفظ في المغرب قضية مركبة، تتداخل فيها الأبعاد القانونية والاجتماعية والاقتصادية. الدولة أعلنت بوضوح نيتها في القضاء على هذه الظاهرة، لكن الطريق ما زال طويلاً، ويحتاج إلى إصلاحات عميقة تشمل الإدارة والقضاء والتشريع. والمواطن المغربي البسيط يظل في انتظار إجراءات ملموسة تخفف عنه العبء وتجعله قادراً على حماية ملكيته بسهولة وبتكلفة معقولة.
التحفيظ العقاري ليس ترفاً ولا خياراً ثانوياً، بل هو ضرورة لحماية الحقوق وضمان الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. وكلما تسارعت خطوات الدولة في هذا المجال، كلما شعر المواطن البسيط بالأمان والاطمئنان على رزقه ومستقبل أبنائه.
التسميات
اخبار