الحوار الاجتماعي في المغرب: إصلاح التقاعد في قلب النقاش الوطني

الحوار الاجتماعي في المغرب: إصلاح التقاعد في قلب النقاش الوطني

يعيش المغرب منذ سنوات على وقع نقاشات اجتماعية واقتصادية متواصلة، يتصدرها موضوع الحوار الاجتماعي الذي يُعتبر أحد أعمدة الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد. وفي خضم هذه النقاشات، برز ملف إصلاح أنظمة التقاعد باعتباره أحد أكثر القضايا حساسية، نظراً لتأثيره المباشر على حياة ملايين الموظفين والمتقاعدين وأسرهم.

لقد أكد الناطق الرسمي باسم الحكومة المغربية، مصطفى بايتاس، خلال ندوة صحفية أعقبت اجتماع مجلس الحكومة في شتنبر 2025، أن جولة جديدة من الحوار الاجتماعي ستُعقد قريباً، وأن ملف التقاعد سيكون على رأس أولوياتها. هذا الإعلان أعاد فتح النقاش حول مستقبل التقاعد في المغرب، والرهانات المرتبطة بالحوار بين الحكومة والنقابات وأرباب العمل.

في هذه المقا

لة المطولة، سنحاول تقديم رؤية شاملة حول الحوار الاجتماعي في المغرب، من خلال التطرق إلى خلفياته التاريخية، الملفات الكبرى التي يعالجها، التحديات الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة به، مواقف مختلف الأطراف، التجارب الدولية، ثم استشراف السيناريوهات المستقبلية الممكنة.


أولاً: الخلفية التاريخية للحوار الاجتماعي في المغرب

الحوار الاجتماعي في المغرب ليس وليد اليوم، بل هو مسار طويل بدأ منذ عقود. فقد عرف المغرب محطات مهمة في هذا الإطار:

  1. المرحلة الأولى (ما قبل التسعينيات):
    كان الحوار الاجتماعي يتم بشكل محدود وغير منتظم، وكانت القرارات الكبرى تُتخذ غالباً من طرف الدولة بشكل منفرد. النقابات كانت تعبر عن مواقفها عبر الإضرابات والاحتجاجات أكثر من الجلوس إلى طاولة الحوار.

  2. مرحلة التسعينيات:
    مع بداية التسعينيات، بدأت الدولة تنفتح على خيار الحوار الاجتماعي كمقاربة لحل الأزمات الاجتماعية. فكانت هناك جولات مهمة ساهمت في تهدئة الأوضاع، خصوصاً في ظل الاحتقان الذي عرفته تلك المرحلة.

  3. مرحلة التناوب التوافقي (1998):
    وصول حكومة التناوب بقيادة عبد الرحمن اليوسفي مثّل نقطة تحول، حيث تم إرساء أسس أكثر تنظيماً للحوار الاجتماعي، وشهدت تلك الفترة توقيع اتفاقيات مهمة بين الحكومة والنقابات.

  4. مرحلة ما بعد 2011:
    بعد دستور 2011، أصبح الحوار الاجتماعي منصوصاً عليه كمبدأ أساسي في الحكامة الاجتماعية. غير أن السنوات التي تلت عرفت تذبذباً في وتيرة الحوار، حيث عرفت بعض الحكومات اتهامات من النقابات بالتسويف والتأجيل.


ثانياً: ما هو الحوار الاجتماعي وما أهميته؟

الحوار الاجتماعي هو آلية مؤسساتية تجمع بين الحكومة، النقابات، وأرباب العمل، لمناقشة قضايا تهم الشغيلة والاقتصاد الوطني. أهميته تتجلى في:

  • ضمان السلم الاجتماعي وتفادي الاحتقان.

  • معالجة ملفات كبرى مثل الأجور، التقاعد، والحماية الاجتماعية.

  • تعزيز الثقة بين الدولة والمجتمع.

  • خلق مناخ ملائم للاستثمار عبر استقرار سوق الشغل.

وقد اعتبر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أن الحوار الاجتماعي بالمغرب يُعد رافعة للتنمية المستدامة إذا ما تم تفعيله بشكل جدي ومنتظم.


ثالثاً: الملفات الكبرى المطروحة في الحوار الاجتماعي

الحوار الاجتماعي في المغرب لا يقتصر على موضوع التقاعد فقط، بل يشمل ملفات أخرى حيوية:

  1. الأجور وتحسين القدرة الشرائية:
    حيث تطالب النقابات بزيادات في الأجور لمواكبة ارتفاع تكاليف المعيشة.

  2. التقاعد:
    وهو الملف الأكثر حساسية، نظراً للأزمة المالية التي تعرفها الصناديق.

  3. الحماية الاجتماعية:
    خاصة بعد إطلاق مشروع تعميم التغطية الصحية والاجتماعية الذي أعلنه الملك محمد السادس.

  4. الحريات النقابية:
    وضمان حق العمال في التنظيم النقابي بعيداً عن التضييق.


رابعاً: ملف التقاعد… التحديات والأرقام

أشارت تقارير المجلس الأعلى للحسابات إلى أن بعض أنظمة التقاعد في المغرب تواجه خطر الإفلاس في السنوات المقبلة. أهم التحديات:

  • العجز المالي: الصندوق المغربي للتقاعد مثلاً يسجل عجزاً سنوياً متزايداً.

  • شيخوخة الساكنة: ارتفاع عدد المتقاعدين مقارنة بعدد المساهمين.

  • ضعف قيمة المعاشات: حيث يعاني المتقاعدون من معاشات هزيلة لا تواكب ارتفاع الأسعار.

من بين الحلول المطروحة:

  • رفع سن التقاعد تدريجياً.

  • زيادة نسبة الاقتطاعات.

  • توحيد الصناديق أو دمج بعضها.

  • إصلاح شامل يأخذ بعين الاعتبار البعد الاجتماعي.


خامساً: مواقف الحكومة

الحكومة الحالية برئاسة عزيز أخنوش تؤكد أنها جادة في إصلاح ملف التقاعد، لكنها تصطدم بمعضلة التمويل. تصريحات بايتاس تشير إلى:

  • الحرص على مصلحة الموظفين والمتقاعدين.

  • السعي إلى إيجاد صيغة توافقية مع النقابات.

  • التزام الحكومة بالحوار المستمر وعدم فرض قرارات أحادية.


سادساً: مواقف النقابات

النقابات تعتبر أن إصلاح التقاعد لا يجب أن يتم على حساب القدرة الشرائية للمواطنين. أهم مطالبها:

  • الزيادة في الأجور.

  • تحسين ظروف العمل.

  • رفع قيمة المعاشات.

  • إشراك حقيقي للنقابات في صياغة القرارات.

وقد أكدت نقابات كبرى مثل الاتحاد المغربي للشغل والكونفدرالية الديمقراطية للشغل أنها ستواجه أي إصلاح أحادي الجانب بالتصعيد النقابي.


سابعاً: المواطن البسيط… بين الانتظارات والمخاوف

بالنسبة للمواطن المغربي، يبقى السؤال الأساسي: هل سيحصل على معاش يضمن له الكرامة بعد سنوات طويلة من العمل؟ أم سيجد نفسه أمام معاش هزيل لا يكفي لتغطية أبسط حاجياته؟
المواطن ينتظر من الحوار الاجتماعي حلولاً عملية ترفع من مستوى عيشه، خصوصاً في ظل ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة والسكن.


ثامناً: تجارب دولية في إصلاح التقاعد

  1. فرنسا: رفعت سن التقاعد إلى 64 سنة رغم معارضة النقابات.

  2. تونس: اعتمدت إصلاحات جزئية بتدرج زمني.

  3. إسبانيا: جمعت بين الرفع من سن التقاعد وزيادة المساهمات.

هذه التجارب تؤكد أن أي إصلاح للتقاعد يحتاج إلى شجاعة سياسية وتوافق اجتماعي.


تاسعاً: آراء الخبراء

خبراء الاقتصاد والاجتماع يرون أن:

  • الإصلاح يجب أن يكون شاملاً وليس جزئياً.

  • لا يمكن تحميل الموظف وحده عبء الإصلاح عبر الاقتطاعات.

  • ضرورة إشراك الشباب في سوق الشغل لتوسيع قاعدة المساهمين.


عاشراً: السيناريوهات المستقبلية

هناك عدة سيناريوهات ممكنة لمستقبل الحوار الاجتماعي بالمغرب:

  1. نجاح الحوار والتوصل إلى اتفاق شامل يرضي الأطراف.

  2. تعثر الحوار والدخول في مرحلة من الاحتقان والإضرابات.

  3. إصلاح جزئي قد يؤجل الأزمة دون حلها نهائياً.


خاتمة

إن جولة الحوار الاجتماعي المقبلة ستكون محطة حاسمة في تاريخ المغرب الاجتماعي. فملف التقاعد لم يعد يحتمل التأجيل، وأي قرار سيتخذ اليوم سيحدد مصير أجيال كاملة من الموظفين والمتقاعدين.
يبقى السؤال مفتوحاً: هل ستنجح الحكومة والنقابات في الوصول إلى اتفاق تاريخي يعزز الاستقرار الاجتماعي؟ أم أننا أمام جولة جديدة من الشد والجذب قد تزيد الوضع تعقيداً؟

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال