تقنين العملات الرقمية في المغرب بين تصريحات الجواهري والرهانات الاقتصادية المستقبلية

تقنين العملات الرقمية في المغرب بين تصريحات الجواهري والرهانات الاقتصادية المستقبلية

تعيش الساحة الاقتصادية والمالية في المغرب منذ سنوات نقاشاً واسعاً حول مستقبل العملات الرقمية المشفرة وإمكانية تقنينها واعتمادها بشكل رسمي ضمن المنظومة المالية الوطنية وقد ازدادت حدة هذا النقاش مع تصريحات والي بنك المغرب عبد اللطيف الجواهري الذي أكد في أكثر من مناسبة أن البنك المركزي يتابع عن كثب التطورات العالمية في هذا المجال ويعمل على دراسة الإطار القانوني والتنظيمي الذي يمكن أن يواكب هذه الموجة الرقمية الجديدة ويحقق التوازن بين الابتكار وحماية الاقتصاد الوطني

لقد أصبحت العملات الرقمية مثل البتكوين والإيثريوم والعديد من العملات الأخرى موضوعاً متداولاً ليس فقط بين المستثمرين والخبراء بل حتى بين عامة الناس حيث ارتفعت نسبة الاهتمام بها في المغرب بشكل كبير خصوصاً في صفوف الشباب الباحث عن فرص استثمارية جديدة تحقق عوائد سريعة ومغرية لكن في المقابل ظلت السلطات المغربية حذرة إزاء هذه الظاهرة حيث سبق لبنك المغرب ووزارة الاقتصاد والمالية أن حذرا في بيانات رسمية من المخاطر المرتبطة بتداول هذه العملات غير المقننة وعلى رأسها غياب الحماية القانونية للمستثمرين وتقلبات الأسعار الحادة واستعمالها أحياناً في أنشطة غير مشروعة

مع ذلك فإن الموقف الرسمي المغربي لم يكن رفضاً قطعياً بل كان أقرب إلى التحفظ المدروس حيث أكد الجواهري في تصريحاته الأخيرة أن المغرب يشتغل على إعداد مشروع قانون خاص بالعملات الرقمية وأن لجنة مشتركة تضم بنك المغرب والهيئة المغربية لسوق الرساميل وهيئة التأمينات والاحتياط الاجتماعي تدرس الجوانب التقنية والقانونية والاقتصادية لهذا الملف من أجل صياغة إطار متكامل يسمح بالاستفادة من إيجابيات هذه التكنولوجيا مع تقليص مخاطرها المحتملة

إن أهمية هذا الموضوع تكمن في كون العملات الرقمية لم تعد مجرد ظاهرة مالية عابرة بل تحولت إلى واقع يفرض نفسه على الاقتصاد العالمي حيث اعتمدت العديد من الدول سياسات مختلفة تجاهها فهناك من ذهب في اتجاه الحظر التام مثل الصين وهناك من اختار التقنين والاعتراف الجزئي مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ودول أخرى في آسيا وأمريكا اللاتينية وبين هذا وذاك يجد المغرب نفسه مطالباً باتخاذ قرار استراتيجي يحدد موقعه في المستقبل الرقمي القادم


تصريحات الجواهري الأخيرة حول العملات الرقمية

في أكثر من مناسبة شدد والي بنك المغرب عبد اللطيف الجواهري على أن مسألة تقنين العملات الرقمية بالمغرب ليست مسألة إن كانت ستتم أم لا بل مسألة وقت فقط وأوضح أن البنك المركزي واعٍ بضرورة مواكبة التطورات العالمية في هذا المجال حتى لا يتخلف المغرب عن الركب وأكد أن التأخر في إصدار إطار تنظيمي قد يعرض الاقتصاد الوطني لمخاطر أكبر من مخاطر الانفتاح المدروس على هذه العملات

وأشار الجواهري إلى أن اللجنة الوطنية التي تدرس الملف قطعت أشواطاً مهمة في إعداد مشروع قانون سيعرض في الفترة المقبلة على الحكومة ثم على البرلمان للمناقشة والمصادقة موضحاً أن الهدف الأساسي ليس تشجيع المضاربة أو المضاعفة السريعة للأرباح بل خلق إطار شفاف يضمن سلامة التعاملات ويعزز ثقة المستثمرين ويحمي المستهلك المغربي

كما تحدث عن ضرورة التعاون مع شركاء دوليين في هذا المجال سواء على مستوى المؤسسات المالية العالمية مثل صندوق النقد الدولي أو على مستوى التجارب الإقليمية خصوصاً في إفريقيا حيث بدأت بعض الدول في اعتماد أطر تنظيمية مرنة تسمح لها بجذب الاستثمارات المرتبطة بالتكنولوجيا المالية والعملات المشفرة


أهمية تقنين العملات الرقمية للمغرب

إن تقنين العملات الرقمية في المغرب قد يحمل العديد من الفوائد الاقتصادية والاجتماعية إذا ما تم بشكل مدروس ومن أبرز هذه الفوائد نذكر ما يلي

أولاً تعزيز جاذبية المغرب للاستثمارات الأجنبية حيث يبحث العديد من المستثمرين الدوليين عن وجهات آمنة وشفافة للتعامل في مجال الأصول الرقمية وإذا استطاع المغرب أن يقدم إطاراً قانونياً واضحاً فإنه قد يتحول إلى مركز إقليمي في إفريقيا يجذب هذه الاستثمارات ويخلق فرص شغل جديدة للشباب

ثانياً تطوير الابتكار في مجال التكنولوجيا المالية حيث يشهد العالم اليوم ثورة في مجالات البلوكشين والذكاء الاصطناعي والتطبيقات المرتبطة بالخدمات المالية الرقمية وإذا سمح المغرب بتقنين هذه الأدوات فإنه سيشجع المقاولات الناشئة المغربية على الإبداع وتطوير حلول جديدة تلبي حاجيات السوق المحلية والإقليمية

ثالثاً تحسين الشمول المالي إذ لا يزال جزء مهم من المغاربة غير مندمج في المنظومة البنكية الرسمية وبفضل العملات الرقمية وتقنيات الدفع عبر البلوكشين يمكن تسهيل الوصول إلى الخدمات المالية للفئات المهمشة والبعيدة عن المراكز الحضرية مما يساهم في تعزيز العدالة المالية وتقليص الفوارق الاجتماعية

رابعاً تعزيز مكانة المغرب في الاقتصاد الرقمي العالمي حيث تسعى المملكة منذ سنوات إلى ترسيخ موقعها كقطب إقليمي في مجالات التكنولوجيا والابتكار وتقنين العملات الرقمية سيكون خطوة إضافية في هذا المسار خصوصاً إذا ارتبط باستراتيجية وطنية للتحول الرقمي تشمل التعليم والتكوين والبنية التحتية

التحديات والمخاطر المرتبطة بالتقنين

رغم الفوائد المحتملة إلا أن تقنين العملات الرقمية لا يخلو من مخاطر وتحديات يجب أخذها بعين الاعتبار ومن أبرزها

أولاً مخاطر غسل الأموال وتمويل الأنشطة غير المشروعة حيث تستعمل بعض الشبكات الإجرامية العملات المشفرة لإخفاء هوياتها وتحويل الأموال عبر الحدود بشكل سري وهو ما يتطلب من السلطات المغربية تطوير آليات مراقبة دقيقة وتعاوناً دولياً فعالاً

ثانياً تقلبات الأسعار الشديدة حيث يعرف سوق العملات الرقمية صعوداً وهبوطاً غير متوقعين يمكن أن يؤديان إلى خسائر جسيمة للمستثمرين غير المحترفين لذلك يجب أن يتضمن القانون المرتقب آليات لحماية المستهلك ونشر ثقافة التوعية المالية

ثالثاً المخاطر التقنية المرتبطة بالاختراقات والقرصنة إذ شهد العالم عدة حالات من سرقة محافظ رقمية ومنصات تداول لذلك يجب أن يشترط القانون المغربي معايير صارمة للأمن السيبراني ويشجع على استعمال تقنيات متقدمة للحماية

رابعاً صعوبة التكييف الضريبي حيث يطرح التعامل بالعملات الرقمية أسئلة معقدة حول كيفية فرض الضرائب وتحديد الأرباح والخسائر وهو ما يتطلب خبرة قانونية ومالية دقيقة لتفادي الثغرات والتهرب الضريبي


التجارب الدولية ودروس للمغرب

من أجل صياغة إطار ناجح لتقنين العملات الرقمية يمكن للمغرب الاستفادة من التجارب الدولية ففي الاتحاد الأوروبي تم اعتماد إطار تنظيمي يعرف باسم "ميكا" ينظم أسواق الأصول الرقمية ويضع قواعد واضحة للترخيص والشفافية وفي الولايات المتحدة هناك نقاش واسع بين الكونغرس والهيئات المالية حول كيفية موازنة الابتكار مع حماية المستهلك

أما في إفريقيا فقد كانت نيجيريا من الدول السباقة إلى اعتماد سياسات خاصة بالعملات الرقمية حيث أطلقت عملة رقمية رسمية للبنك المركزي تعرف باسم "إي نايرا" وهي تجربة يمكن للمغرب أن يدرسها ليستخلص منها الدروس والعبر


مستقبل العملات الرقمية في المغرب

المستقبل يبدو واعداً إذا استطاع المغرب أن يضع إطاراً متوازناً يجمع بين تشجيع الابتكار وحماية الاقتصاد فمن المتوقع أن يعرف سوق العملات الرقمية نمواً متزايداً في السنوات المقبلة خصوصاً مع تزايد الاهتمام العالمي بتقنية البلوكشين وبروز تطبيقات جديدة تتجاوز مجرد التداول لتشمل العقود الذكية والخدمات اللوجستية وإدارة سلاسل التوريد

كما أن الشباب المغربي الذي يتميز بروح المبادرة والابتكار يمكن أن يلعب دوراً محورياً في هذا التحول إذا ما توفرت له بيئة قانونية مشجعة ودعم حكومي مناسب

إن تصريحات والي بنك المغرب عبد اللطيف الجواهري حول قرب تقنين العملات الرقمية بالمغرب تعكس وعياً رسمياً بأهمية هذه الظاهرة وبضرورة مواكبتها بشكل مدروس ومتوازن وإذا كان الحذر مطلوباً لتفادي المخاطر فإن الانفتاح المحسوب قد يكون مدخلاً أساسياً لتعزيز مكانة المغرب في الاقتصاد الرقمي العالمي وتوفير فرص تنموية جديدة

المغرب اليوم أمام فرصة تاريخية فإذا أحسن استغلالها قد يصبح من بين الدول الرائدة في إفريقيا في مجال تقنين العملات الرقمية واستثمارها لخدمة التنمية الاقتصادية والاجتماعية


إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال