البنك الدولي وتوصيته برفع سن التقاعد في المغرب إلى 70 سنة: جدل الإصلاح الاجتماعي بين الضرورة والرفض الشعبي
يشهد المغرب في السنوات الأخيرة نقاشاً واسعاً حول أنظمة التقاعد ومستقبلها المالي والاجتماعي، خاصة مع تزايد التحذيرات من قرب نفاد احتياطيات الصناديق وارتفاع العجز المالي الذي يهدد استمراريتها. في خضم هذا الوضع الحساس، أصدر البنك الدولي توصية مثيرة للجدل، دعا فيها الحكومة المغربية إلى رفع سن التقاعد إلى 70 سنة باعتباره "حلاً ضرورياً" لموازنة الصناديق وضمان استمراريتها. هذه التوصية أثارت ردود فعل قوية في الأوساط السياسية والنقابية والشعبية، حيث اعتبرها الكثيرون خطوة قاسية على حساب المواطن البسيط، خصوصاً أن المغرب يعاني من هشاشة اجتماعية واقتصادية تجعل تطبيق مثل هذا الإجراء أمراً صعباً للغاية.
المقال التالي يحاول تسليط الضوء على خلفيات هذه التوصية، تحليل أرقام العجز في صناديق التقاعد، عرض ردود الفعل الشعبية والنقابية، ثم تقديم بدائل إصلاحية أخرى ممكنة بعيداً عن تحميل العبء كله على المواطن.
خلفية عن أزمة التقاعد في المغرب
أنظمة التقاعد في المغرب ليست وليدة اليوم، فقد تم إرساء عدة صناديق منذ عقود لتغطية فئات مختلفة من الموظفين والعاملين. أبرز هذه الصناديق:
الصندوق المغربي للتقاعد (CMR): يغطي موظفي القطاع العام والعسكريين.
الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (CNSS): يغطي مستخدمي القطاع الخاص.
النظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد (RCAR): يغطي موظفي المؤسسات العمومية والجماعات.
غير أن هذه الصناديق تعيش منذ سنوات على وقع عجز مالي متزايد. فحسب تقارير المجلس الأعلى للحسابات، فإن الصندوق المغربي للتقاعد سجل عجزاً يقدر بأكثر من 6 مليارات درهم سنوياً، فيما يتوقع أن تصل التزامات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي إلى أكثر من 50 مليار درهم بحلول سنة 2040.
أسباب هذا العجز متعددة، من بينها:
ارتفاع عدد المتقاعدين مقارنة بعدد المنخرطين الجدد.
ضعف نسبة التغطية الاجتماعية، حيث لا يتجاوز عدد المساهمين 40% من الساكنة النشيطة.
سوء التدبير وضعف الاستثمار في أموال التقاعد.
غياب إصلاحات هيكلية شاملة منذ عقود.
توصية البنك الدولي: رفع سن التقاعد إلى 70 سنة
في أحدث تقرير له حول الوضعية الاجتماعية في المغرب، دعا البنك الدولي الحكومة المغربية إلى "إصلاح عميق" لنظام التقاعد، ومن أبرز النقاط التي ركز عليها رفع سن التقاعد تدريجياً إلى 70 سنة.
حسب البنك الدولي، هذا الإجراء ضروري للأسباب التالية:
تزايد معدل العمر المتوقع في المغرب، الذي بلغ حوالي 74 سنة حسب منظمة الصحة العالمية.
التوازن المالي للصناديق يتطلب زيادة عدد سنوات العمل والمساهمة.
تأخير سن التقاعد سيخفف الضغط على ميزانية الدولة التي تتحمل جزءاً مهماً من عجز الصناديق.
غير أن هذه المبررات تواجه انتقادات قوية من طرف النقابات والمواطنين، الذين يعتبرونها مقارنات غير منطقية بين المغرب والدول الأوروبية.
ردود الفعل الشعبية والنقابية
منذ الإعلان عن هذه التوصية، عبرت النقابات المغربية عن رفضها المطلق لفكرة رفع سن التقاعد إلى 70 سنة. النقابة الوطنية للتعليم والاتحاد المغربي للشغل وغيرهما أكدوا أن مثل هذا القرار سيكون "ضربة قاضية" لحقوق الشغيلة.
أما المواطن المغربي البسيط، فقد عبر في مواقع التواصل الاجتماعي عن سخطه من هذه الفكرة، حيث قال كثيرون: "كيف يعقل أن نعمل حتى 70 عاماً ونحن نعاني من ظروف صعبة حتى قبل بلوغ 60 سنة؟". آخرون اعتبروا أن هذا القرار يعني "التقاعد في القبر"، في إشارة إلى أن الكثير من المغاربة لن يعيشوا طويلاً ليستفيدوا من معاشهم.
مقارنة مع دول أخرى
يستشهد البنك الدولي بتجارب دولية لتبرير توصيته، غير أن هذه المقارنات لا تأخذ بعين الاعتبار اختلاف الواقع المغربي:
في فرنسا، رفعت الحكومة سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة فقط، ومع ذلك خرج ملايين المواطنين في احتجاجات ضخمة.
في ألمانيا، السن القانوني للتقاعد هو 67 سنة، لكن الدولة توفر تغطية صحية شاملة وظروف عمل مريحة.
في المغرب، ظروف العمل صعبة، والأمراض المهنية كثيرة، ومتوسط الدخل ضعيف، ما يجعل رفع السن إلى 70 عاماً أمراً قاسياً وغير عادل.
البعد الاجتماعي والإنساني للتقاعد
التقاعد ليس مجرد قضية مالية أو حسابية، بل هو حق اجتماعي وإنساني يكفل للإنسان الراحة بعد سنوات طويلة من العمل والعطاء. في المغرب، معظم العمال والموظفين يقضون حياتهم بين ضغوط العمل وتكاليف المعيشة، ومع بلوغ سن الستين أو الخامسة والستين، يحتاجون إلى الراحة لا إلى تمديد سنوات أخرى من المعاناة.
التوصية برفع السن إلى 70 عاماً تتجاهل البعد الإنساني، وتتعامل مع المواطن كرقم فقط في معادلة مالية.
البدائل الممكنة لإصلاح التقاعد
بدلاً من رفع سن التقاعد، هناك بدائل واقعية يمكن للحكومة المغربية اعتمادها:
1. توسيع قاعدة المساهمين: عبر إدماج القطاع غير المهيكل الذي يمثل حوالي 60% من اليد العاملة في المغرب.
2. تحسين الحكامة: من خلال محاربة الفساد وسوء التدبير داخل الصناديق.
3. تشجيع الاستثمار: استثمار أموال التقاعد في مشاريع مربحة بدل تركها تتآكل.
4. إصلاح ضريبي عادل: محاربة التهرب الضريبي الذي يحرم الدولة من موارد ضخمة.
5. توزيع عادل للثروات: إذ لا يمكن تحميل الفقراء عبء الإصلاح بينما المستفيدون من الريع في مأمن.
الرأي العام المغربي: بين الرفض والقلق
المغربي اليوم يشعر بأن القرارات المصيرية تُتخذ بعيداً عنه، وبأن المؤسسات المالية الدولية تفرض رؤيتها على حساب مصالحه. توصية رفع سن التقاعد إلى 70 سنة عمقت هذا الشعور، وزادت من فقدان الثقة في السياسات العمومية.
ملف التقاعد في المغرب معقد وحساس، ويحتاج فعلاً إلى إصلاح عميق، لكن الإصلاح لا يجب أن يكون على حساب المواطن البسيط وحده. رفع سن التقاعد إلى 70 عاماً قد يوازن دفاتر الحسابات، لكنه سيكسر ظهر المواطن الذي أنهكته سنوات العمل وظروف العيش الصعبة. الحل العادل هو إصلاح شامل يشمل محاربة الفساد، توسيع التغطية الاجتماعية، تحسين الاستثمار، وضمان توزيع عادل الثروة